البطولة: كل موقف من مواقف الحياة بعثت عليه غاية نبيلة جليلة، فاندفع
إليه البطل في لحظة من لحظات السمو على كل ما يخضع له الناس من رغبة أو
رهبة إخلاصاً لما آمن به من القيم والمثل.
وعلى هذا فليس كل شجاعة بطولة، وليس كل شجاع بطلاً وليست البطولة هي
الشجاعة، وإنما الشجاعة من صفات البطل لا أكثر.
وللبطولة بواعث شتى تبعث إليها، فهي ليست مقصورة على المواقف الرائعة
الفذة التي يأتي بها الأبطال في ساحات الوغى وإنما هي ضروب وألوان.
1- الإيمان بالله :-
الإيمان الله ـ عز وجل ـ يقف على قمة البواعث، ذلك لأن الإيمان الحق قوة
مبدعة إذا مست القلوب اهتزت بأروع الشمائل ـ الخصال والصفات ـ وربت أجل
الخصال وأنبتت من البطولات أجلها ـ أعظمها ـ تضحية وفداء وأرساها بذلاً
وعطاء وأبقاها على الدهر.
2- الكرامة و العزة :-
من بواعث البطولة الكبرى الشعور العميق بالكرامة والإحساس الشديد بالعزة
ـ العزة بالإيمان ـ والأنفة من العار، فعقبة بن نافع أقبل على موارد الردى
ـ القتل ـ وهو يعلم علم اليقين انه لا صدر بعد هذا الورود.
ومحمد بن حميد الطوسي رأى باب الموت مفتوحاً أمامه فدخله أنفة من عار
الفرار.
3- الحب في الله :-
كم سجل التاريخ في أسفاره من بطولات المحبين وتضحياتهم قصصاً تستلين
القلوب القاسية وتستدر الدموع العاصية، ولعل أروع مثل على هذا الحب
وبطولاته ما روته كتب التراجم والسير عن حبيب بن عدى ـ رضي الله عنه ـ بعد
أن ظفرت به قريش بعد بدر وصلبوه ليقتلوه، وكان على رأس الناس يومئذ أبو
سفيان بن حرب وصفوان بن أمية. وتقدم أبو سفيان، وقال له: "أناشدك الله
أتحب أن يكون محمد مكانك الآن تضرب عنقه وإنك في أمن في أهلك؟"، فتبسم
حبيب، وقال: "والله ما أحب أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكانه الذي
هو فيه الآن، وأن شوكه تصيبه فتؤذيه وإني جالس في أهلي". فما كان من أبي
سفيان إلا أن قال: "والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد لمحمد".
4- الإيثار على النفس :-
تأمل معي هذه القصة التي مهما نسى المسلمون كل تاريخهم الحافل فلن ينسوا
ذلك الموقف الرائع الذي ختمت به معركة اليرموك، ذلك أنه عندما انجلت تلك
الواقعة الفاصلة عن ذلك النصر المؤزر للمسلمين، كان يتمدد على الأرض ثلاثة
أبطال أثخنتهم ـ أضعفت وأوهنت قواهم ـ الجراح، هم الحارث بن هشام، وعايش
بن أبى ربيعة، وعكرمة بن أبى جهل ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ، فدعا الحارث
بماء ليشرب فلما قدم له نظر إليه عكرمة فقال الحارث: "ادفعوا إليه"،
فلما قربوه من عكرمة نظر إليه عايش، فقال: "ادفعوه إليه"، فلما دنوا من
عايش وجدوه قد قضى نحبه، فلما عادوا إلى صاحبيه وجدوهما قد لحقا به.
5- غنى النفس (الزهاده) :-
حدث لأحد أعيان مكة، قال: دخلت بستاناً من بساتين المدينة، فوجدت رجلاً
حبشياً يجلس إلى جذر البستان وفى يده رغيف من الخبز وأمامه كلب مقع ـ
جلسة الكلب على رجليه الخلفيتين ـ فكلما اقتطع من الرغيف لقمه اقتطع
أخرى ودفع بها إلى الكلب.
فدنوت منه وقلت: أهذا كلبك؟
قال : لا.
قلت: فلم تطعمه وما معك غير هذا الرغيف.
قال: لأننا أمرنا ألا نأكل وذو عين ينظر إلا أطعمناه مما نأكل.
فقلت: أحر أنت أم عبد.
فقال: بل أنا لآل فلان.